أبدأ مقالي بعبارة مهمة لأفلاطون، ينبغي على الجميع في هذا الوطن، بلا استثناء، حكومة قبل مواطنين، أن يعرف الجميع ان التماسُك المجتمعي هو أساس المصلحة العامة، أو هو المصلحة العامة ذاتها.
أصبح من المعتاد الآن أنْ نرى ذلك الجدل سواء على مواقع التواصل الاجتماعي، أو في الشوارع والمقاهي ووسائل المواصلات العامة، في كل مرَّة تعلن فيها الدولة عن إنجاز ما في أي قطاع اقتصادي أو تنموي.
لا يتعلق الأمر بتلك النقاشات العبثية التي تثيرها الدوائر المرتبطة بقوى هدَّامة لا تسعى إلى صالح هذا الوطن، ولا تريد الخير له، وتعمل في إطار قواعد حروب الجيل الرابع، التي من بينها إشاعة الروح السلبية في المجتمع، وهدم الروح المعنوية للجبهة الداخلية.
وإنما يتعلق الأمر بنقاشات حقيقية تدور بين المواطنين حول نقطتَيْن رئيسيتَيْن، الأولى، أولويات الإنفاق الحكومي، والثانية، مسألة نصيب المواطن من ثِمَار التنمية.
تدفع المواطن إلى ذلك حالان أساسيَّان، الحال الأول، متعلق بظروف آنية، وهي الارتفاعات المتواصلة لأسعار المواد الأساسية والاستهلاكية، والحال الثاني، قديم وصار ثقافة متأصلة لدى الكثير من شرائح الشعب المصري، وهو الثقافة الاستهلاكية، التي وصلت إلى مستوى نسطتيع تسميته “السُّعَار الاستهلاكي” بعد نصف قرن من الانفتاح غير المرشَّد.
فالمنظومة الرأسمالية التي دخلها الاقتصاد، وبالتبعية المجتمع في مصر منذ منتصف السبعينيات الماضية، لا تعمل، ولا تحقق الربحية التي هي أساس النشاط الرأسمالي، من دون تعزيز ثقافة الاستهلاك لدى المواطن والمجتمع.
إلا أنها تفاقمت في مصر نتيجة لظروف كثيرة، منها أن الدولة في مرحلة الانفتاح والعقود الأربع التالية عليه، رفعت يدها عن الكثير من المهام التي اعتاد المجتمع عليها في العقود السابقة على الانفتاح الاقتصادي، والتي كانت مهام ذات طابع يمكن أن نصفه بـ”التوجيهي”أو “الضابط”.
فكان البعد الاجتماعي من أهم أدوار الدولة في فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر التي تُدرَّس مناهج العلوم السياسية على أنها نموذج من نماذج التنمية المستقلة في دول العالم الثالث، ولذلك عندما ضعف أو تراجع هذا الدور، وبشكل مفاجئ منذ السبعينيات، حدث ما يمكن أنْ نطلق عليه أنه نوع من أنواع فقد البوصلة بالنسبة للمواطن.
بالتوازى مع ذلك تأثير ذهاب ملايين المصريين إلى العمل في العراق والسوق الخليجي، بكل ما لذلك من أبعاد اجتماعية، أثَّرت على طبيعة المصريين وسلوكهم، فأصبح نمط الحياة في دول الخليج النفطية الثرية، هو معيار قياس الأمور، وما يخالفه، سيء من وجهة نظر الناس، وتحوَّلت الثقافة الاستهلاكية – المطلوبة بلا شك لتحريك عجلة الاقتصاد – إلى ما يُطلَق عليه “السُّعار الاستهلاكي”.
وكان لغياب مشروع وطني جامع، في مقابل ظواهر سلبية تفاقمت كثيرًا في تلك العقود، مثل زيادة وتيرة الأزمات المعيشية، وارتفاع نسب الفقر، وازدياد رقعة الفساد في الجهاز الحكومي، مقابل ترك المجال لأطراف هدَّامة مثل الجماعات الدينية المتطرفة بمختلف اطيافها، للعبث في عقول المواطنين، وتشتيتهم بعيدًا عن الانتماء الوطني؛ نقول كان لكل تلك العوامل، عظيم الأثر في نقطة مهمة كانت مرتكز رئيسي لهذا الجدل الذي بدأنا الحديث به، وهو فقدان المواطن للثقة بالدولة، وبدأ في التنائي عنها.
وهذا التنائي أو التباعُد، لم يكن فقط عمَّا تطرحه من خطاب، وإنما طال أيضًا تصورات وخطط الدولة في مجال الاقتصاد والتنمية، مهما كانت إيجابية هذه التصورات والخطط، وحتى لو كانت في إطار المصلحة العامة، حتى إن المواطن يُعلِي من شأن الريبة كمبدأ عام، من دون بحث أو فحص في أي شيء تقوله الدولة أو تعلنه، ولعل هذا من بين أبرز التحديات التي تواجه الجمهورية الثانية في مصر.
حتى مفهوم المصلحة العامة “Public interest”، والتي هي الأساس الذي ينبغي أنْ تنطلقَ منه السياسات العامة “Public policies” للدولة، لا يبدو أن هناك اتفاق بين الدولة والمواطن عليه، على اختلاف أولويات الطرفَيْن، وبخاصة في ظل التعارض الطبيعي المصالح العامة مع المصالح الخاصة لكل فرد في المجتمع على حِدَة.
فمن المعروف أو المُتَّفَق عليه عند أساتذة العلوم السياسية وبخاصة أساتذة الإدارة والنُّظُم، أن “المصلحة العامة” لا تعني مطلقًا مجموع المصالح الفردية للمواطنين، لكن هذا المبدأ الصحيح من وجهة نظر العِلم، والتطبيقات السليمة للدول في العالم المتقدم؛ لا يؤمن به المواطن المصري بسبب تأثيرات عقود طويلة من سيادة الفوضى الفكرية وتغيب الوعي لصالح أمور كثيرة، منها السُّعار الاستهلاكي كما أشرنا.
من جانب آخر، لا يمكننا أنْ نطالب المواطن نصف المتعلِّم الذي يعاني لتوفير الحد الأدنى من المعيشة لأطفاله وأسرته، أنْ يتقبَّل أفكارًا وخططًا طويلة المدى، نظير حاجاته العاجلة، المُلِحَّة، له لأسرته.
انتبهت الدولة إلى ذلك، فجاءت سياسات وخطط استجابت لهذا الواقع، مثل “حياة كريمة” و”100 مليون صحة”.
وزادت أهمية مثل هذه البرامج لامتصاص تأثيرات عوامل خارجية مدمِّرة، مثل أزمة “كوفيد – 19” والحرب الروسية الأوكرانية التي هي في تأثيراتها أخطر من الحرب في غزة على مساسها بأسعار الحبوب، والتي تعتبر من أهم السِّلَع الإستراتيجية بالنسبة لمصر، أكبر مستورِد للقمح في العالم، نظرا لضخامة حجم الإنتاج المحلي؛ حيث تٌنتِج مصر ما بين 9 إلى 10 ملايين طن من القمح سنويًّا ارتفاعًا من 6 ملايين في الفترات السابقة على الجهورية الثانية.
وتزداد المشكلة بين المواطن والدولة في ظل اقتصار رؤية المواطن على مصلحته الفردية، بأنها ما يتعلق بالغذاء واحتياجات الجسد، بما في ذلك أمور مثل الشاي والقهوة والسجائر، وصولاً حتى إلى المخدرات، وتراجعت أمامها – لدى شرائح ضخمة من المواطنين – أولويات أخرى أهم مثل الإنفاق على التعليم والصحة الأُسَرِيَّة.
وهذا ليس بظُلم في الحكم على هذه الشريحة من المواطنين التي تسير على بطونها، فوفق تقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء والمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وحتى مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء؛ فإن الغذاء يبتلع القسم الأكبر من ميزانية الأُسَر في مصر.
وهذه مشكلة ضخمة؛ لأنها تضطر الدولة إلى تخصيص وإنفاق مئات المليارات من الموازنة العامة لتغطية احتياجات مجتمع الـ110 ملايين مواطن، من الدعم والسلع الأساسية والغذاء، بينما هناك بنود أخرى أساسية بحاجة إلى توجيه تمويلات ضخمة لها، مهما كانت أهميتها، لمصلحة المواطن نفسه.
فمشروعات الطرق، أبسط ما استفاد منها المواطن، هو أنها سمحت بإنشاء وتشغيل مدنًا صناعية وتجمُّعات زراعية جديدة، أفادت عشرات الآلاف من الأُسَر، وعززت من الإنتاج المحلي من السلع الاستهلاكية التي يرغبها المواطن المصري.
ولكن هذا النمط من التفكير ينعكس على تقييم المواطن لأي شيء تقوم به الدولة، ما دام بعيدًا من وجهة نظره عن توافر / أسعار المواد والسِّلَع الغذائية.
وهي أيضا مشكلة تواجهها المؤسسات والجمعيات العاملة في مجال المسؤولية الاجتماعية والعمل الخيري، والتي كانت تعمل بنظام الدعم النقدي؛ حيث إن إنفاق المواطن الفقير المحتاج للمبالغ المالية التي قد يحصل عليها من بعض الجهات الخيرية كمساعدات، لا يكون في أوجه الإنفاق المخصصة لها، بما في ذلك حتى استعمال هذه المبالغ ليس في شراء أغذية، بل في أمور أخرى سلبية، مثل الإنفاق على التدخين وحتى تعاطي المخدرات، وأشياء أخرى من هذا القبيل؛ فتفقد هذه التمويلات الغرض منها، وتذهب تبرعات المواطنين هباءً.
لذلك؛ فإن الجمعيات الخيرية وبرامج المسؤولية الاجتماعية التابعة للقطاع الأهلي باتت تقلل من مساعداتها المالية والتوسُّع في المساعدات العَيْنيَّة، مثل بناء أسقف المنازل، ومد مياه الشرب النقية في القرى الفقيرة، أو مساعدة الفتيات اليتيمات في تجهيز أنفسهنَّ للزواج، وما شابه.
ويبدو ذلك واضحًا في معدلات التبرُّع للحسابات المصرفية الخاصة ببرامج الدعم؛ حيث غالب المتبرعين يسألون عن البرامج التي تقدم خدمات عَيْنِيَّة، حتى ولو كانت غذاءً، وليس الدعم النقدي المباشر، الذي تحت وطأة عدم رشادة السلوك الاستهلاكي للمواطن.
وهنا من المهم التنوير بمشكلة كبيرة لدى شريحة من المجتمع المصري، وهي عدم منطقية بعض المطالب التي تطرحها.
فليس من المنطقي عند الحديث عن إقامة مصنع جديد للهواتف المحمولة، أو الأجهزة المنزلية أو أي شيء من هذا القبيل، أنْ يعني ذلك أن تقوم الدولة بتوزيعها مجانًا على المواطنين. هذا لا يحدث في أي بلد في العالم، لأنه ببساطة أمر مضحك أو غير منطقي.
أيضًا تتغافل الكثير من الأوساط عن الإلمام بكل جوانب الموقف عند الحديث عن خطط الدولة في مجال ما، مثل تصدير الكهرباء. فهو لا يرى – وقت أزمة تخفيف الأحمال التي أعلنت الحكومة انتهاءها بشكل كامل – في مشروعات الربط الكهربي وتصدير مصر للطاقة، إلا افتئاتًا على حقوقه كمواطن، وأنه يعاني لأن “الدولة عايزة تصدَّر الكهربا”.
ونفس النقاش العقيم عند الحديث عن مكتشفات مصر من مكامن الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، والتي دارت حولها معركة كبرى لا يدرك كامل المواطنين في مصر أبعادها؛ فنرى تعليقات مثل “الدولة بتصدَّر الغاز على حساب المواطن”.
بينما لا يفكر هذا المواطن في أن لتصدير الكهرباء، والغاز، عوائد بعشرات المليارات من الدولارات، يستفيد منها هذا المواطن نفسه، في أشياء كثيرة، بما في ذلك حتى الأمن الغذائي الذي هو هاجسه الأساسي.
ففاتورة استيراد اللحوم والزيوت وسائر السلع الأساسية التي لم تحقق مصر بعد فيها كامل خططها للاكتفاء الذاتي منها، يتم سدادها من روافد عدة، منها التصدير؛ السِّلَع والخدمات بأنواعها المختلفة.
نفس الشيء لو تحدَّثنا عن تحسين أسواق الحاصلات الزراعية المصرية في الخارج، هو لا يرى إلا نفسه وهو يدفع كذا في كيلو البطاطس أو الطماطم، بينما لا يرى عشرات المليارات لا تعود على الدولة هنا، وإنما على مواطنين آخرين مثله، أصحاب الأراضي الزراعية، ممَّن فتحت الدولة لهم أسواق خارجية لمنتجاتهم المختلفة من الخضروات والفواكه، وخلفهم عشرات آلاف الأُسَر المستفيدة، فيها ملايين من المواطنين.
المشروعات القومية الكبرى التي يتم تنفيذها.. لا تنظر هذه الشريحة من المواطنين إلى أن هناك رقمًا بين 3 إلى 5 ملايين مواطن يعملون فيها، ويتباين الرقم بحسب الفترة الزمنية وحجم المشروعات المنتهية وتلك الجديدة التي تم البدء فيها.
فلو أننا افترضنا أن كل مواطن من هؤلاء معلَّقٌ في رقبته أَبٌ وأُمٌّ، أو زوجة وطفل واحد – فهذا يعني رقمًا يصل إلى بين 10 إلى 15 مليون مواطن يستفيدون من هذه المشروعات عملاً فقط، من دون المستفيدين من عوائدها من أصحاب المصانع والمناطق الزراعية الجديدة والعاملين في هذه وتلك. هذا فقط لو كان هذا العامل الذي يعمل في مشروعات الطرق والبنية التحتية، له فقط أسرة من فردَيْن، وهذا غير حاصل في مثل هذه الفئة من المواطنين؛ حيث كل واحد من هؤلاء مسؤول عن أسرة من أربعة وخمسة أفراد، وربما أكثر.
ولكن في الأخير؛ فإننا لا نعيب على هذه الشريحة من المواطنين فحسب، وإنما هناك دور للدولة في هذا الإطار؛ حيث لا تعمل في الجانب التوعوي التنويري المطلوب.
فالمواطن بعد عقود طويلة من الإهمال والتجريف الحضاري، وضعف التعليم والإعلام؛ روافد التنوير الرئيسية في أي مجتمع ناهض، وهو ما لا يجب أنْ نخجل من الاعتراف به كأُنَاسٍ ناضجين، ودولة ترغب في النهوض؛ نقول إنه بعد هذه العقود الطويلة بحاجة إلى من يشرح له، ويحاول أنْ يصل إليه بكل هذا وغيره من التوضيحات.
وبالتأكيد هناك اختلالات في توزيع بنود الإنفاق الحكومي في الموازنة العامة، على النحو الذي حدده الدستور لبنود بعينها، مثل النِّسَب المخصصة للتعليم والصحة، لكن في المقابل، ينبغي التوضيح هنا بأن هذه الاختلالات جزء كبير منها يحدث بسبب محاولات الدولة للتوفيق ما بين إلحاح المطالب الاستهلاكية للمواطنين، وبخاصة في مجال الأمن الغذائي وبين اعتبارات أمن قومي مُلِحَّة، وليست اعتبارات تنموية فحسب، مرتبطة بها تقوم به من مشروعات كبرى في طول مصر وعرضها.
وحتى على المستوى الاقتصادي المباشِر؛ فإن من بين أهم ما حققته الدولة في السنوات الماضي، تخفيض فاتورة الاستيراد وتعزيز قطاع التصدير، وهذا من شأنه تحقيق فوائد جَمَّة، من بينها تخفيف الضغط على العملة الوطنية، وتعزيز قدرة الدولة على بناء احتياطي سِلَعي يكفي لما بين ستة إلى تسعة أشهر، وحتى عام وما يزيد على العام في بعض السِّلَع، كما قال وزير التموين والتجارة الداخلية، الدكتور شريف فاروق.
وهذه المعدلات ارتفعت من مستوى 3 إلى 5 أشهر في العهود السابقة، وهذا الأمر – بناء احتياطي سِلَعي ضخم – من أهم مصالح الأمن القومي لأي بلد، وتزداد أهميته في بلد مثل مصر، فيها مجتمع يعاني من تفاقم الثقافة الاستهلاكية غير المُرَشَّدة، ورأينا آثاره في بلدان عريقة مثل بريطانيا؛ عانت من أرفف فارغة في متاجرها وقت أزمة “كوفيد – 19″، وعقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ بسبب عدم التحسُّب لمثل هذه الظروف هناك.