استدعاء الجد والعصا.. لاستعادة الهوية “معركة درنة” لعلاء أبو زيد.. نموذجا

3 71683846186

نقد: زكريا صبح

الرمزية في قصص علاء أبو زيد

للقصة القصيرة مذاق خاص ونكهة مميزة والقارئ لها كالمتذوق لطعام شهى لا يعرف  اسمه ولا كنهه ولكنه يلتذ به، وكذا القارئ للقصة القصيرة لا يعرف أي عناصرها أكثر جمالا هل  التكثيف أم المفارقة أم غرابة اللقطة المنتقاة أم  الرمزية  التي  يدغدغ بها الكاتب عقل قارئه أم الدلالة التي  يتركها النص في نفس من يحاول فك رمزيته وتأويل دلالته؟؟

ربما كانت الرمزية هي أشد ما يميز هذه المجموعة إذ أن النصوص ليست مقصودة لذاتها بل ترمز إلى معان لا تحب القصة القصيرة الإفصاح عنها بمباشرة ممجوجة، ولذا كلما أوغلت في نص من نصوص المجموعة ستجد نفسك وقد أغمضت عينيك  متخيلا معنى جديدا ربما لم يقصد إليه الكاتب ولكن في كل الحالات ستجد نفسك في حالة تأويل جميلة محلقا بروحك وخيالك.

الوهلة الأولى

فيما  كان الكاتب يقصد إليه،  وهذا ما يتبدى لك من الوهلة الأولى في النص الأول  ومعركة درنة ،  ستجد نفسك تسأل  هل

الكاتب يقصد معركة طفولية تقع  لمعظم أطفالنا  في سنوات دراستهم؟

هل كان اختيار  ليبيا  خبط عشواء؟

هل كان لذاك الاختيار  علاقة بما جرى  لبعض  مواطنينا من قتل في درنة على أيدى المتطرفين المجرمين؟

هل كان استدعاء الجد  والعصا  بدون  مبرر؟

هل كان اختيار مدرسة الموسيقى  مصادفة؟

أسئلة مشروعة يطرحها النص على قارئه  ويذهب كل قارئ له مذهبا  يخصه معتمدا على ثقافته ومرجعيته وقدرته على تأويل النصوص.

وفى قصته البديعة ٣ يوليو نلاحظ رمزية  التاريخ  الذى يمثل مرحلة مفصلية في تاريخ الأمة المصرية والذى أختلف حوله الناس  فمنهم من رأه انقلابا ومنهم من رأه انتصارا.

لكن الرمزية الأشد وضوحا في هذه القصة هي السيارة القديمة التي ترمز فيما أظن  إلى مصر ، وطريق السفر  الوعر المظلم  الذى تسير فيه  والتخبط الذى  تعانيه من أجل الوصول  ،  وانظر معي إلى حالة التوقف التي انتابت السيارة  وانعطافها الى جانب الطريق في انتظار  ضوء تهتدى به لاستكمال السير ومواصلة الرحلة، كأنه يستشرف المستقبل لما آلت إليه الأوضاع بعد  الثالث من يوليو الذى أعقب الثلاثين من يونيو.

وعلى هذا المنوال تسير معظم قصص المجموعة حتى النوفيلا التي جاءت مكتملة في نهاية المجموعة فيما يقرب من خمس وخمسين صفحة حملت في مضمونها العام  رمز ضياع  الوطن وأهله في حال وقع رهينة صراع الايدولوجيات وتخبط قادته في سياسات فاشلة لا تراعى خصوصية هذا الوطن وقدرته على اجتياز الصعاب فترهق كاهله بالأعباء تتلوها أعباء.

ولن يغيب عنا بالضرورة رمزية الصيدلية المنوط بها علاج الناس فإذا بها تقدم سموما مخدرة، ورمزية الصحفي الذى  لم يجد لنفسه قدما في بلاط الصحافة فتحول من قائد منوط به تنوير المجتمع إلى قواد لا يأبه إلا لنزواته.

إننا بلا شك أمام كاتب يعرف كيف يعالج القضايا الشائكة بمبضع الرمزية  الدقيق.

الكاتب/ علاء أبو زيد

الروح الساخرة في  أدب أبو زيد

في قصته ٣ يوليو  نراه يصف السائق بأنه ليس ثرثارا رغم أنه سأله أسئلة كثيرة فلا تملك إزاء ذلك إلا ابتسامة ترتسم على شفتيك لانه ينقل بدقة حال معظم السائقين الذين لا يكفون عن طرح الأسئلة والثرثرة في أي شيء وفى أي وقت.

ثم رغم حالة سيارته المتردية نراه يعدد مزاياها وكأنه موديل العام نفسه ولم يمسسها عطب ولا سوء.

عندما يكون الوطن الهم  الأول للكاتب

الروح الوطنية

إن الناظر  للروح التي تسيطر على قصص المجموعة لن يخطئ الروح الوطنية والتطلع الى مستقبل يليق بالوطن وارتباط الوطن بزعيمه، وذلك ما نلاحظه في قصة جمال عبد الناصر.

هل يكفيك أن يكون العنوان بهذه المباشرة كي تتأكد من حس الكاتب الوطني أم أنت بحاجة إلى استكمال النص لترى كيف  جعل جدول الماء الصغير حائلا دون الوصول إلى الحديقة التي بها ما لذ وطاب من الفواكه كناية عن رغد العيش.

هل أنت بحاجة كي تعرف هذه الهمة التي انتابت الشباب في محاولاتهم عبور جدول الماء فقط لأنه سيفوز بلقب ابن الزعيم؟

لقد كان هذا إيمانا راسخا في فترة من فترات الأمة، لكنك ستندهش عندما تجد الكاتب يقول لك في أن المتسابقين في حب الزعيم سقطوا في منتصف جدول الماء وغاصت أرجلهم في الطين.

وربما كان حسه الوطني وضميره المهني وشعوره بالمسئولية تجاه وطنه باديا في معظم قصص المجموعة خاصة في نصه الرائع فص ملح…

وأسمعك الآن تكمل  المثل ،فص ملح وداب.

مدخل رائع يؤهلك للنهاية إذ أنك ستعرف من غير عناء أننا أمام حالة اختفاء وسيكون عليك معرفة سبب هذا الاختفاء.

وهنا تبدو قدرة الكاتب على بلورة الصراع الذى دار إبان فترة تولى فصيل الاخوان السلطة في مصر فتراه يجمل المشكلة  بين  شخص يؤرقه اهتمامه بالجنس وفى ذلك يمضى الكاتب مع  الشائع الذى تردده العامة عن الفصيل الذى يتبنى الإسلام السياسي وكيف ان جل اهتمامه هو الجنس وجعل من الرجل رمزا للتيار كله ورمزا للمؤيدين لمرسى، فيما كان الراوي وأصدقائه من التيار المدني يرون أن مصر أصبحت أو باتت تضحك بعد غياب الإخوان.

واستطاع الكاتب أن يكتب بجمل بسيطة ويصور حجم الخلاف آنذاك..

كتب يقول على لسان المؤيدين للتيار المدني: مصر تتسع للجميع.

بينما رد عليه رمز التيار الديني: ولكم في القصاص حياة.

ورغم أن الكاتب قصد من هاتين الجملتين أن يصور حجم الخلاف إلا أن الزمن أثبت أنهما الحل عينه جهد مضاعف.

لن تكون في حاجة لبذل جهد مضاعف كي تتأكد من الموضوعات التي تؤرق كاتبنا، الوطن المنقسم على ذاته بين واد وبدو، بين  نيل وصحراء بين عاصمة وأطراف بين متن وهامش.

في مدينة الهواجس يتضح الأمر جليا كيف تنفصل الأطراف عن المركز فتعشعش الغربة في نفوس ساكنيها، حتى يختلط الأمر على امرأة  تشتاق لزوجها عندما تجده، هل هو الذى غادرها  أم مجرد شبه لشبحه، ويختلط على الرجل أمر بيته الذى  يدخله بغير إرادة منه، هل هو بيته الواقع في أقصى أطراف الوطن أم أن بيته في قلب العاصمة الصاخب!

ولذا ليس غريبا أن تأتى القصة رائعة من دون تحديد أسماء لأبطالها

لكن يبقى طلبها المشروع الذى يخاطب ضمير كل مسئول: أين زيارات طلاب الجامعات وقوافل المصطافين وزحام التجار ؟

الاغتراب في قصص أبو زيد

عندما تصل حساسية الكاتب درجة كبيرة  ويصبح أكثر شفافية يصبح في الآن ذاته أكثر معاناة  وأشد اغترابا، تجعله  الحساسية  أشد انفعالا  بمأساة الآخرين وتجعله  الشفافية  أكثر التحاما  بهم  ولذا تبدو معاناته في تصوير اغترابهم وانقسام ذواتهم حتى أنه قد يتقمص أدوارهم  متحدثا بلسانهم ، ولعل هذا ما وضح جليا في قصته حذاء يتسع ليلا، حيث تكمن غربة البطل الرئيس الذى  يستعديه السرد والسارد باعتباره معادلا  موضوعيا لكل من  يشعر أنه مثل خيل الحكومة لا  فائدة منه ، ثم يتقمص الكاتب صوت البطل الذى يعيش لحظة اغتراب شديدة الألم حيث يهيئ له خياله او مخاوفه  أن أحدا يتبعه يسمع وقع خطواته كلما تحرك  ثم  يتذكر أن صوت الخطوات يشبه صوت خطوات صديقه الذى كان يشعر أنه مثل خيل الحكومة وكأننا أمام تبادل المواقع كأننا عرفنا الآن معاناة البطل الراوي الذى يتحدث بضمير الأنا باعتباره راويا مشاركا، بتواطؤ جميل من الكاتب الذى تقمص الشخصيتين معا

إنها روعة الفن في المراوغة واللعب والبعد عن المباشرة والوضوح.

المعتزلون

في قصة المعتزلين- سنعرف في النهاية أنها نوفيلا وليست قصة -يدخل الكاتب في مغامرة أخرى عندما يتبنى الرواية بضمير  المخاطب فيقول عندما تدخل تكتشف أنه يجلس ……. إلى آخره.

مما يعنى وعى الكاتب بضرورة كسر ملل قرائه من تكرار استحضار الراوي العليم أو المشارك فيلجأ إلى استحضار القارئ باعتباره المخاطب والمعنى مباشرة بالحكاية وفى هذه القصة أيضا يلجأ الكاتب إلى  قسمتها إلى مقاطع  سردية  مرقمة  وصلت إلى  اثنين وعشرين مقطعا  .

وربما استطعنا  بضمير مستريح أن  نقول إن  الكاتب مارس خداعه الفني لنا ولم يكتب على صدر كتابه إلى جانب توصيف العمل  بأنه مجموعة قصصية أنه أيضا يشمل نوفيلا قصيرة بعنوان المعتزلون،  ولأنه مخلص أو مخادع – خداعا فنيا –  قسم النوفيلا إلى  مقاطع كأنها قصصا قصيرة أو هكذا بدت.

لكن البناء الروائي ينهض مقطعا بعد آخر حتى يستقيم بناء معماريا أشبه ما يكون بالرواية وأبعد ما يكون عن روح القصة القصيرة التي تعتمد على زمن محدد وقصير في أن واحد، وتفضل  عددا محدودا من الشخصيات وتحبذ أن يدور الحدث في مكان محدد، وكذلك لا تحب تشعب الموضوعات المناقشة، لذا ينحو هذا النص نحو الرواية، وفيه حاول الكاتب عبر لغة رشيقة متقافزة  كأحداث  العمل، وجمل قصيرة كأنفاس أبطاله، وتغير في ضمائر الخطاب، كتغير مواقف الأبطال المفاجئ، أقول فيه حاول الكاتب معالجة مرحلة الانفتاح الاقتصادي والقبضة الأمنية وتمدد التيار الديني في مقابل انتشار التيار الشيوعي، رصد الكاتب الانهيار الأخلاقي الذى صاحب الانفتاح الاقتصادي وانغلاق الآفاق السياسية، مما جعل المجتمع  هاربا من نفسه ملتجأ إلى المخدرات بحجة  المتاعب الجسدية ، والحقيقة أن المجتمع يريد أن  يعالج  الاضطراب النفسي والروحي الذى سقط فيه جراء  الاضطراب السياسي والاقتصادي.

في النهاية لا نملك إلا الامتنان للكاتب الذى يعرف أن جوهر الفن هو اللعب ويعرف أن جوهر القصة هو الرمز، ويعرف أن جوهر الرواية أو النوفيلا هو الصراع ويعرف أن جوهر الأدب هو اللغة العذبة الرشيقة، وليس هذا بمستغرب على رجل يحترف الكلمة المنطوقة عبر ميكرفون الإذاعة ويجيد الكلمة المكتوبة عبر قصصه البديع.

By

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *