تحليل إخباري: د. محمد أبو الحس
تعكس الأوضاع في السودان فشلاً إقليمياً ودولياً، في منع حرب كانت إرهاصاتها تقول للعالم إنها قادمة لا محالة، بين جنرالين يسابقان الزمن لحسم نزاع السلطة، بينما سقطت العملية السياسية في بلد يفيض بأزمات متنوعة، تضع مصيره على المحك.
بعد الشعب السوداني تبدو مصر أكبر الخاسرين جراء الأزمة، فدور القاهرة شاحب أو أقل من المتوقع أو المطلوب لأمنها أو أمن السودان، وهي تحاول الإفاقة والتحرك، لكن دائرة الفرصة تضيق ونذر الخطر والخيارات كلها صعبة.
الأكثر خسارة
للوهلة الأولى بدت مصر متفاجئة بالأزمة في الشقيق الجنوبي، وخياراتها حائرة في التعامل مع نزاع الجنرالين المسلح، تجد نفسها وسط معضلة، تتحمل أكثر من أي دولة فاتورة صراع سوداني قد يطول. مصر هي الفناء الخلفي للسودان، والسودان هو الفناء الخلفي لمصر، علاقات البلدين عضوية محكومة بقوانين “الجيوستراتيجية”، كلما تعرض أحدهما لمحنة خف الآخر لنجدته. روابط القربى بين شعبي وادي النيل تجعل مصر تُدمي أكثر من غيرها لأي جرح يصيب السودان، تستقبل بلا قيود السودانيين الفارين من القتال، وتخشى أن ينتج الصراع نظاماً ضعيفاً أو معادياً لها في الخرطوم، تكون له تداعيات كارثية، في ظل الصراع مع إثيوبيا حول سد النهضة الذي يمثل تهديداً وجودياً لمصر، لا يمكن مواجهته من دون مساندة من السودان.
البداية
في بداية الأحداث، حاصرت قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي قاعدة ومطار مروي شمال السودان، واحتجزت جنوداً مصريين كانوا في مهمة تدريبية، بناء على اتفاق بين القوات المسلحة المصرية ونظيرتها السودانية، ما كشف عن رغبة حميدتي في تحييد مصر وشل قدرتها على التأثير بالأزمة، وتوجيه رسالة لحلفائه الإقليميين المعادين لمصر مثل إثيوبيا بأن عليهم أن يتدخلوا لصالحه إذا احتاج إليهم أو إذا غامرت مصر بالتدخل لصالح البرهان؛ ما قيد حركة القاهرة، بينما تقدمت أطراف إقليمية ودولية أبعد جغرافياً وأقل انغماساً في المعطيات السودانية، للعب أدوار أكبر.
التجاهل بعد التحييد
وفي مفارقة كاشفة، تجاهل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن التواصل مع القاهرة في الأيام الأولى للأزمة؛ بينما هاتف نظيريه السعودي فيصل بن فرحان والإماراتي عبدالله بن زايد، وهذا التجاهل الأميركي وأحداث الأزمة دفعتا النخب المصرية للتساؤل عن شحوب الدور المصري في الفناء الخلفي لبلادهم.
الأزمة الاقتصادية
وفي محاولة لتفسير ما يجري؛ ذهب بعضهم إلى أن السياسات المصرية، خلال الخمسين عاماً الماضية حتى الآن، مسؤولة عن تدهور دورها ومحدودية خياراتها في السودان، وقالوا إن مصر المأزومة اقتصادياً منذ عصر الرئيس السادات مسؤولة عن انحسار دورها عربياً وأفريقياً، بحيث دفع تأثيرها حتى في مجالها الحيوي إلى الهامش.
المعاناة
تعاني مصر أزمة اقتصادية ومالية منذ عام 1975، ما يعرقل التفاتها إلى دورها الجيوسياسي؛ نظراً لتضعضع قدرتها على المبادرة في السياسة الخارجية والحذر من إغضاب المانحين والمقرضين، بعدما كانت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي الرقم الصعب في معادلات الشرق الأوسط وإفريقيا، كما دفعت معاهدة عملية السلام مع إسرائيل السياسة الخارجية المصرية إلى الانكماش؛ ولأن السياسة مثل الطبيعة تأبى الفراغ، كان لا بد من أن يتقدم لاعبون آخرون لملء الفراغ الناجم عن الانكفاء المصري في ملفات المنطقة. بخاصة أن دولاً إقليمية مثل إسرائيل وإثيوبيا وتركيا وإيران وغيرها، ترى أن تهميش دور مصر وحصارها في حدودها ضرورة لكبح القاهرة وعزلها عن محيطها العربي والشرق الأوسطي والأفريقي، من خلال استراتيجية “شد الأطراف” أو “كسارة البندق” وهي الاستراتيجية التي وضعها بن جوريون عام 1955، بإشعال الجبهات من حولها وإغراقها بالمشكلات من كل صوب، في غزة وليبيا وشرق المتوسط والسودان و”سد النهضة”، إلخ.
المعوقات
جانب آخر لمعوقات دور مصر في السودان، يتمثل في حساسيات راسخة، تزكي تصورات سلبية في مخيلة بعض السودانيين تجعلهم يتشككون في نواياها، برغم عمق العلاقات التاريخية بين شعبي مصر والسودان. وللإنصاف، فإن هناك نوعاً من المبالغة السودانية وعدم الإدراك المصري لمثل تلك الحساسيات؛ لأسباب يطول شرحها، لكنها تؤثر سلباً في العلاقات بينهما؛ ما يفتح الباب لدخول الآخرين في قضايا تخص الشعبين بالدرجة الأولى. أيضاً تأخذ القوى المدنية السودانية على القاهرة ما تعتبره انحيازاً لانقلاب الجيش في 2021، ضد حكومة حمدوك، بينما تشعر مصر بالقلق من عدائية بعض أطراف المشهد السوداني تجاهها؛ ما مهّد الطريق أمام المستفيدين من تقييد دور القاهرة، كإثيوبيا وغيرها، لإزكاء تصورات بائسة عنها، وتنشط مخابرات دول عدة في بث الإشاعات والمعلومات المغلوطة في “وسائل التواصل” والإعلام، بحيث تبدو مصر وكأنها هي من صنعت وتصنع أزمات السودان، لا التي تكتوي بنارها!.
الشؤون الداخلية
من ثمّ، يمكن أن نفهم حديث الرئيس عبد الفتاح السيسي عن امتناع بلاده عن التدخل في الشؤون الداخلية السودانية، بينما تعاني جراء الأزمة على المستويات كافة؛ إذ يشكل عدم استقرار السودان ضغطاً علي الجيش المصري، يفقد شريكاً (الجيش السوداني) في حماية الحدود المشتركة؛ بسبب انشغالاته الداخلية، كما يؤدي عدم الاستقرار بالسودان إلى مزيد من السيولة الأمنية بوسط القارة الأفريقية، ويؤجج الأنشطة الإرهابية، ويتيح الفرصة للتدخلات الإقليمية والدولية التي قد تحوّل الصراع السوداني إلى حرب أهلية، ترفع مستوى التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر، نتيجة ارتفاع أعداد اللاجئين والهجرة غير الشرعية والإرهاب والجريمة.
وفي وقت تعاني مصر أزمة اقتصادية مستحكمة، يقارب عدد السودانيين الذين وصلوا إلى أراضيها منذ اندلاع الصراع نحو 80 ألفاً، بينما يقيم أكثر من 5 ملايين سوداني بمصر، يعاملون كمصريين تماماً، وفقاً لاتفاقية الحريات الأربع. أما الأخطر، فيتمثل في أن الأزمة الراهنة أخرجت السودان من معادلة سد النهضة، ولو مؤقتاً، ما أفقد مصر سنداً، وبالفعل اعتبرت إثيوبيا الأزمة السودانية فرصة سانحة وأعلنت بدء الملء الرابع لبحيرة السد في (يوليو) المقبل، مع تجميد المفاوضات لحين عودة السودان.
فرصة تاريخية
لذلك تعالت الدعوات من جانب قطاعات من النخبة المصرية، لإعادة بناء لحمة العلاقات مع السودان على أسس تكفل عافيتها، وعدم ترك السودان فريسة للتفاعلات الخطيرة، أو لجهود أطراف خارجية أخرى سواء حسنت نواياها أو ساءت مقاصدها، من خلال إجراء مراجعة ذاتية لاستراتيجية التعامل مع الوضع السوداني؛ وعلاج ما تبدى من قصور وتقييد للأدوات المصرية في الصراع الحالي.
حضّ وزير الخارجية المصري وأمين عام الجامعة العربية الأسبق عمرو موسى، القاهرة على تبني سياسات نشيطة وديناميكية، في السودان، وأشار إلى أن بعض المصالح العربية قد تتعارض مع المصالح المصرية الأكثر عمقاً في السودان وأفريقيا، مطالباً بوقفة مصرية صريحة وجريئة؛ قائلاً: إن مصالحنا الحيوية في تلك المنطقة أصبحت مهددة وعلى المحك، واحتمال استغلال إثيوبيا للوضع يفاقم مشكلة السد بالنسبة الى مصر.
الصعوبات
يصعب على مصر أن تترك ملف السودان لأي محور إقليمي أو عالمي؛ لأنه ملف حساس، يتعلق بالعمق الاستراتيجي، لكن اختيار المدخل مهم بالدرجة نفسها. صحيح أن القاهرة تحاول تجنب إثارة حساسيات الأشقاء السودانيين، وتسعى لاحتواء الصراع عبر القنوات الدبلوماسية، لا سيما التواصل مع دول جوار السودان مثل جنوب السودان وتشاد، والاتحاد الأفريقي والإيجاد، كما دعمت مصر المبادرة السعودية – الأميركية ومفاوضات جدة، إذ تقترب رؤية السعودية مؤخراً من نظيرتها المصرية برغم التباينات. وتؤكد القاهرة ضرورة إنهاء الأزمة بمشاركة جميع الأطراف، على نحو أوسع من “الاتفاق الإطاري”، ثم استكمال المرحلة الانتقالية وصولاً للحكم المدني الديموقراطي، وهو ما يلتقي مع المبادرة السعودية – الأميركية التي تدعو إلى “مشاركة الجميع” في التسوية السياسية، وتلك نقطة التقاء، تصلح أساسا لتنسيق مصري – سعودي – إماراتي – أميركي..
إن الأزمة السودانية تشكل فرصة حقيقية لمصر كي تتقدم الصفوف من دون وجل، لتكون أكثر الفاعلين في تحقيق السلام في عمقها الاستراتيجي، حتى لا تصبح السودان دولة فاشلة؛ ما يفتح الباب لمرحلة جديدة من التدخلات الخارجية تكون مصر أولى ضحاياها.