القاهرة في 19 مارس /أ ش أ/ تقرير
تتقارب ذكرى المناسبات الوطنية، لتتناغم مع ذاكرة النضال الوطني المصري، فها نحن نحتفل بمناسبتين عظيمتين في تاريخين متتاليين، في العاشر والتاسع من رمضان الحالي 1445 (20 و19 مارس 2024)، فالأول يواكب ذكرى نصر أكتوبر 1973 العظيم، والثاني يواكب ذكرى إتمام تحرير طابا.
التاريخان يحتضنان بينهما سيناء الحبيبة من أقصاها إلى أقصاها، فمن أقصاها غربا حيث بدء التحرير باقتحام قناة السويس وتدمير خط بارليف، إلى أقصاها شرقا حيث نهاية المعركة القانونية لتحرير آخر حفنة رمال من أرض الفيروز أرض الوطن المقدس، وفيما بينهما كان نضال شاق من أجل تحقيق السلام الذي بنى على نصر رمضان أكتوبر المجيد.
ويقول اللواء دكتور محمد قشقوش مستشار الأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والاستراتيجية مستشار المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، إن المناخ العسكري القتالي لحرب العاشر من رمضان السادس من أكتوبر، واكبه مناخا روحانيا رمضانيا، حيث طلب الفريق سعد الشاذلي بديلا جديدا لصيحة النصر، وحينها أذن لصلاة العصر في قيادة الجيش الثالث الميداني، وفي حينها تم التيمن (بالله أكبر) وهو ما نفذ منذ الضربة الجوية وكسر الصمت طوال الحرب، وخاض الرجال الحرب واستشهد من استشهد وأغلبهم صائمون بمن فيهم إخوانهم المسيحيون، فيا لها من حرب تحرير عظيمة مقدسة.
ويشير قشقوش، إلى أن عملية الإعداد الشامل بدأت نهاية هزيمة حرب 67 مباشرة، ورفض الشعب المصري لتلك الهزيمة ورفض تنحي الرئيس جمال عبدالناصر عن موقعه ورفض هزيمة جيشه في حرب غير متكافئة لم يخضها، ورفع الشعب والجيش شعاري تلك المرحلة؛ “ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة” و”لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، بما يعني أن حرب التحرير قادمة لا محالة، وأن الإعداد لها له الأسبقية المطلقة.
وأردف: “ثم جاء الإعداد التسليحي والقوة البشرية المقاتلة، وكان أولها استعواض خسائر حرب عام 67 وخاصة من الطائرات والدبابات والدفاع الجوي، ثم زيادة دعم تلك القوات تباعا طبقا لما سمح به الاتحاد السوفيتي، كما تم الإعداد للقوى البشرية تحت السلاح العاملة والاحتياطية، مع زيادة نسية المجندين (المؤهلات العليا)؛ لتطوير التعامل مع الأسلحة والمعدات الحديثة، وتم استحداث الضابط المحارب من ضباط صف المؤهلات العليا؛ لزيادة نسبة الضباط صغار الرتب إلى الجنود، حيث بلغت 18: 1، وكذاك تطوير بنك الدم ليفي بالاحتياجات الطبية خلال الحرب”.
وبرزت أهمية التدريب الشاق للقوات والقيادات نهارا وليلا على كافة مراحل القتال، بما فيها اقتحام وعبور قناة السويس واجتياز مناطق البحيرات المرة والتمساح بالقوات البرمائية الميكانيكية والمدرعة.
ويضيف “وجاء إعداد مسرح العمليات، حيث تم إعداد شامل تضمن إعداد الطرق والسكك الحديدية والموانئ البحرية والجوية وإعداد مناطق وخطوط دفع الاحتياطيات، وكذلك إعداد المناطق الإدارية، وكان من أهم مراحل الإعداد وأصعبها، وإعداد خطة (خدمة القائد) لتفي باحتياجات السيطرة والتحركات التكتيكية المنضبطة لمئات الآلاف من القوات وعشرات الآلاف من المركبات المختلفة ومئات الدبابات عبر الطرق ومحاور التقدم، مع عبور كباري الاقتحام المتنوعة لقناة السويس والمعديات المختلفة نهارا وليلا مع السيطرة بالتوقيتات والخطوط، وتعتبر تلك الخطة من أكبر وأدق الخطط النوعية العالمية خلال مراحل الحرب وخاصة مراحل الإعداد والعبور لقناة السويس كأكبر وأصعب مانع مائي في التاريخ حتى الآن.
وتابع قشقوش: “ثم التخطيط الدقيق وشمل كافة التفاصيل التكتيكية والفنية، ودراسة جميع المصاعب والعوائق المنتظرة، والتغلب عليها وحلها بدقة وهدوء دون أن تشعر قوات العدو، وتزاوج العديد من تلك الإجراءات مع خطة الخداع الاستراتيجي، ولكن تمت المعالجة بمهارة، مثل التغلب على أنابيب النابالم، وتدبير مضخات مياه فتح السواتر الترابية بأعداد كبيرة من بريطانيا وألمانيا دون أن يشعر أحد، وتسلق الأفراد للساتر الترابي بارتفاع متوسط 20 مترا (7 طوابق) بمعداتهم وأسلحتهم الخفيفة والمتوسطة.
وتم التنسيق الدقيق مع هيئة قناة السويس لاستخدام إمكانياتها في إعداد وتجهيز منازل ومصاعد الكباري والمعديات وتوفير بعض قوارب العبور، كما شمل التخطيط كيفية استقبال قوات الدعم العربية لكل من مصر وسوريا، رغم تقدير وصولها متأخرة لأنها ستبدأ بالفتح الاستراتيجي بعد معرفتها بتوقيت بدء الحرب سعت 1405 ظهر يوم السادس من أكتوبر، وذلك حفاظا على السرية وتحقيق المفأجاة ضد القوات الإسرائيلية.
وجاء اختيار موعد وتوقيت الحرب بعد دراسة مستفيضة لاختيار الشهر والأسبوع واليوم والساعة كالآتي: شهر أكتوبر؛ قبل هبوط الجليد على الجولان، كما سيواكب معظم شهر رمضان كدافع روحي، وبه العديد من الأعياد اليهودية وأهمها يوم الغفران (كيبور).. الأسبوع الأول؛ الجزء الأول من الليل مقمر لتركيب الكباري بأقل مد وجزر لأن القمر لم يكتمل بدرا، والجزء الثاني مظلم لعبور الدبابات وللإخفاء عن طيران العدو.
يوم 6 أكتوبر: يوافق يوم (كيبور) حيث تتوقف الحياة في إسرائيل، بما في ذلك بث الإذاعة والتلفزيون، عدا إذاعة الجيش التي تبث دقائق كل ساعتين، مما أخر وأربك خطة التعبئة الإسرائيلية.. الساعة 2 ظهرا: نصف نهار بما يسمح بتوجيه ضربة جوية وإمكانية تكرارها، وعبور الإنسان الأولى للقناة بالقوارب والمعديات، وإدارة نيران المدفعية، وتجهيز مواقع مناسبة للقوات شرق القناة استعدادا لصد احتياطيات العدو القريبة.
ويقول قشقوش: “خطة الخداع الاستراتيجي (ونالت مساحة أكبر نظرا لأهميتها)، كانت مفتاح النصر بحق حيث من خلالها تم تحقيق المفاجأة الكاملة لإسرائيل بل والولايات المتحدة بكل إمكانيات استخباراتهما، وكانت خطة شاملة تمت على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وكانت محصلتها المهمة هي خداع العدو عن وقت بدء الحرب، مما أفقده عنصري المبادأة والمفاجأة، والنتيجة هي شلل وإرباك خطة تعبئة قوات الاحتياط الإسرائيلية الهامة التي تشكل حوالي 60-70% من إجمالي القوات الإسرائيلية التي يجب أن يتم استدعاؤها خلال 72 ساعة أي 3 أيام.
ويضيف قشقوش: “كان أهم ما احتوته الخطة على المستوى السياسي إرسال ممثل للرئيس الراحل محمد أنور السادات إلى الولايات المتحدة للتباحث بناء على طلبها، حيث تم التنسيق مساء يوم 5 أكتوبر بين نائب هنري كيسنجر والسفير المصري في واشنطن أشرف غربال، وقبل أن يرد السفير في التاسعة صباح اليوم التالي 6 أكتوبر بتوقيت واشنطن، الثالثة ظهرا بتوقيت القاهرة كانت الحرب قد بدأت بالفعل، وقبول زيارة وزير الدفاع الروماني لمصر في 8 أكتوبر، وتم ذلك بناء على طلبه في أول أكتوبر، وإرسال برنامج مقترح للزيارة، ويوم الحرب 6 أكتوبر تم الاعتذار وتفهم الموقف، وكان يحمل مقترحات للوساطة بين مصر وإسرائيل بواسطة الرئيس شاوشيسكو، ثم جاء الاجتماع السري لمجلسي الدفاع الوطني لمصر وسوريا في الإسكندرية، وكان للتنسيق النهائي، وعقد في قيادة القوات البحرية في رأس التين برئاسة الرئيسين من 22-23 أغسطس 73.
وعلى المستوى الاقتصادي.. تأخر إغلاق المجال الجوي فوق مصر لآخر لحظة بما يسمح للطيران الدولي بتغيير مساراته إلى مسارات بديلة قبل الدخول للأجواء المصرية كمنطقة حرب، تأخير إطفاء شعلات حقول الغاز في خليج السويس والبحر الأحمر لآخر لحظة حتى لا تكون قرينة في حالة الإطفاء الجماعي المتزامن والمبكر.
استيراد ماكينات ضخ مياه فتح السواتر الرملية من بريطانيا ثم من ألمانيا تحت ستار مشروعات زراعية بجوازات سفر ووظائف من وزارتي الزراعة والري.
أما على المستوى الإعلامي والاجتماعي.. فقد ساهم الإعلام مساهمة فعالة بالتنسيق مع إعلام القوات المسلحة، بالتركيز على المراد توصيله إلى العدو مثل إعلانات الحج والعمرة في بداية رمضان للضباط والمتطوعين وأسرهم والتركيز على الصحف التي تحصل عليها السفارات الإسرائيلية في أوروبا وخاصة لندن وباريس.
كما كان النشاط الاجتماعي لا تخطئه العين المتابِعة بالفرحة الأسرية بعودة أبنائهم من التعبئة، في الظروف المتوترة منذ سبتمبر 73 من الاستدعاء التدريبي السنوي لمناورات الخريف من سلسلة (تحرير).
أما على المستوى العسكري.. تشمل العديد والعديد من الأنشطة نذكر منها – تكرار أعمال التعبئة والتسريح – التدريب على العبور خارج مراقبة العدو، تحريك الكباري إلى منطقة القناة، وكانت من أصعب المراحل نظرا لضخامة الكوبري، وتم نقلها بعد تفكيكها ليلا وإخفاؤها، مع إعادة بعض الأجزاء المجمعة نهارا للرصد وهكذا، مع إنشاء الكباري الخفيفة والهيكلية – التخطيط للهجوم على طول مواجهة قناة السويس ظهرا بمواجهة حوالي 170 كم (بما فيها عيون موسى) وبقوات النسق الأول المحتل لغرب القناة مباشرة والدارس للعدو – مع بدء الحرب ظهرا عكس كل المتبع وكل التوقعات.
ويضيف: “وكانت محصلة التخطيط والتنفيذ للمفاجأة الاستراتيجية، إن نجحت نجاحا كبيرا وخدعت المستوى السياسي والعسكري الإسرائيلي والعالمي بما فيه الولايات المتحدة بل والاتحاد السوفيتي أيضا، وتعتبر آخر مفاجأة استراتيجية يصعب أن تتكرر، نظرا للتقدم التكنولوجي في مجالات الاتصالات والتنصت والأقمار الصناعية، ولكن تبقى المفاجأة التكتيكية واردة، بفكرة جديدة أو سلاح جديد.
كما كانت الدوافع الوطنية والقتالية والروحية قوية للغاية، كما كان نجاح المفاجأة وتأخر وارتباك خطة التعبئة الإسرائيلية خلال الثلاثة أيام الأولى من الحرب أثرا كبيرا لمقدمات النجاح والنصر المرتقب، وكان وقت التعبئة هو ذات الوقت الحرج الذي احتاجته القوات المسلحة المصرية لتنفيذ المراحل الأولى وتحقيق المهام الصعبة مثل الفتح الاستراتيجي واقتحام قناة السويس، وبدء القتال الضاري لتدمير خط بارليف الحصين، وقتال الاحتياطي المدرعة الإسرائيلية القريبة بالقوات المصرية الخفيفة من المشاة والمظلات والصاعقة منفردة قبل فتح الساتر الترابي وتركيب الكباري وعبور الدبابات المصرية مع بدء اليوم الثاني للقتال، في السابع من أكتوبر.
وشهدت مرحلة التنفيذ الشجاع العديد من البطولات نذكر منها: تدمير النقاط الحصينة لخط بارليف المنيع ورفع الأعلام المصرية عليها- تحرير مدينة القنطرة شرق- استسلام مواقع إسرائيلية في القنطرة ولسان بور توفيق- الاستيلاء على مركز قيادة تبة الشجرة شرق الإسماعيلية- ومواقع المدفعية الثقيلة 155مم في عيون موسى (أبو جاموس كما أسماه الجنود)- تغلل قوات اللواء البرمائي في أعماق “تمادا” بسيناء.. قبل الارتداد نظرا لعدم وجود دفاع جوي مصري متحرك (مميكن)، ونجاح الضربة الجوية الافتتاحية، وعرقلة وصول القوات الجوية الإسرائيلية المتفوقة إلى قناة السويس بتوجيه قيادتهم بالابتعاد عن (غابة الصواريخ) المصرية.
وعن حقيقة معركة الثغرة.. يقول اللواء قشقوش: تعتبر أكبر أكذوبة إسرائيلية عن حرب أكتوبر 73، فهي إحدى 8 معارك برية، وطبقا لآراء الخبراء فقد كسبت مصر 6.5 معركة، بينما كسبت إسرائيل 1.5 معركة، وهذا النصف هو الجزء الأول من معركة الثغرة، حيث تسللت القوات غربا وحاصرت مدينة السويس وهاجمتها يوم 24 أكتوبر بهدف إسقاطها كهدف استراتيجي سياسي، ومنيت بهزيمة كبيرة وفشلت في دخولها ولم تستطع معاودة الهجوم حتى وقف إطلاق النار في 28 أكتوبر.. بينما كان النصف الثاني من التقييم لصالح مصر بجدارة، حيث تم تكثيف الحصار بفرقة ميكانيكية وبقوات المظلات والصاعقة والحرس الجمهوري ولواء مدرع جزائري ولواء ميكانيكي مغربي، مع تعديل مواجهات القتال من الشرق إلى الغرب من قوات الجيش الثالث الميداني، تمهيدا لتصفية الثغرة، مع تخطيط تدمير الكوبري الإسرائيلي المتاح للانسحاب (فكانوا كفأر في مصيدة) لذلك احتفلوا بفض الاشتباك طوال الليل بإطلاق الألعاب النارية.
وعن النتائج وأهم الدروس المستفادة يقول: “لقد حاربت مصر بما توفر لديها من الاتحاد السوفيتي، وليس بما كانت تريد أن تحوز.. ليس من حيث الكم فقط بل من حيث الكيف والتطور التكنولوجي الذي امتلكه الجانب الإسرائيلي من خلال الولايات المتحدة قبل وأثناء الحرب، خاصة في مجال القوات الجوية والدفاع الجوي المتحرك (المميكن) والدبابات والحرب الإلكترونية.
ورغم ذلك حقق الجيش المصري نجاحات وانتصارات من خلال أعمال قتال مبهرة، بحسن الإعداد والتخطيط والتنفيذ واستغلال نقاط الضعف الإسرائيلية وتعظيم نقاط القوة المصرية وأهمها الكفاءة والروح القتالية، وندلل بمثال على ذلك باستسلام الموقع الإسرائيلي الحصين في لسان بور توفيق بعد 4 أيام قتال، وفي المقابل لم يستسلم الموقع المصري بكبريت بعد أكثر من 100 يوم.
ويؤكد “بلا شك أن الانتصار العسكري المصري في حرب أكتوبر (بكسب أكبر عدد من المعارك مع تحقيق الهدف من الحرب) كان وراء نجاح خيار السلام، الذي سبق ورفضت إسرائيل كل مبادراته على كافة المستويات قبل حرب العاشر من رمضان السادس من أكتوبر 1973، ولكن الموقف قد تغير بعد الحرب وأصبح لنداء السلام آذان صاغية، حيث يقود السلام إلى التنمية الشاملة في مناخ صحي خال من الإرهاب وعدم الاستقرار، بدءا بتنمية سيناء، ميدان الحرب والتحرير والسلام والاستقرار، كما كان الانتصار القانوني في طابا، هو الانتصار الثالث في مثلث الانتصارات العسكرية والسياسية، واستغرق بضع سنوات من التحدي والصراع خلال التحكيم الدولي، واستخدمت فيه الوسائل المصرية القانونية والتاريخية والعسكرية والمساحية والطبوغرافية والجغرافية والوثائقية، لنصل في النهاية إلى أن طابا مصرية ورغم محدودية تلك البقعة من الأرض (مثل قرية ياميت الإسرائيلية في العريش) فقد أصر الرئيس الراحل السادات ومن خلفه مصر، على حرية تراب الوطن المقدس الذي لا يَقبل المساومة.
أ د ه / همس
/أ ش أ/