إعداد: أحمد التلاوي
يعتبر قطاع الدواء أحد أهم القطاعات الإستراتيجية في أية دولة، في أوقات السِّلْم والحرب، ولقد أولته الدولة المصرية منذ الستينيات، اهتمامًا كبيرًا، عندما تأسست شركة النصر للكيماويات الدوائية، في عام 1960م، والتي كانت تُعتَبر الوحيدة في مصر والشرق الأوسط التي تنفرد بإنتاج الخامات الدوائية والمستحضرات الصيدلانية.
ويرى الكثيرون أن جائحة “كوفيد – 19″، كانت وراء تسريع الدولة المصرية لجهودها في مجال تطوير الصناعات الدوائية، في مواجهة التحديات التي فرضها هذا الوباء العالمي، إلا أن هذه الصورة ليست دقيقة؛ حيث بدأت الدولة المصرية خططها للتنمية الشاملة قبل الجائحة، منذ العام 2014م؛ حيث كان قطاع الدواء أحد أبرز القطاعات الاقتصادية التي تحرَّكت فيها ضمن خططها للتنمية الشاملة.
محاور استراتيجية الدولة في مجال الدواء
– توفير كافة الاحتياجات الدوائية للمريض المصري، سواء من خلال قدرات التصنيع المحلية أو توفيره من الأسواق العالمية.– ضمان أعلى معايير الجودة في المنتَج الدوائي الموجود في السوق المحلية.
– توطين صناعة الدواء في مصر، وبخاصة المستحضرات الدوائية عالية التقنية، وبخاصة التي تُستَخدَم في علاج أمراض القلب والسرطان، لتوفير الموارد المالية من العملة الصعبة التي يتم استيرادها بها.
ويتضمن كل محور من هذه المحاور عددًا من المسارات التي تحركت فيها الحكومة المصرية في السنوات العشر الماضية، منها ما هو لوجستي، يتعلق بتحقيق مخزون إستراتيجي للأدوية في مصر، وبخاصة الأدوية الحساسة، ومنها ما هو مؤسسي، متمثِّل في تأسيس هيئات إشرافية جديدة تعمل على تحقيق الحَوْكَمَة المطلوبة في هذا القطاع الحيوي، ومنها ما يتعلق بالتصنيع، صُلْب خطة الدولة من أجل ضمان الكفاءة والفاعلية اللازمتَيْن لتحقيق مستهدفات المحاور الثلاثة.
وبحسب التقارير الدورية لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار في مجلس الوزراء المصري، فإن عدد مصانع الأدوية في مصر ارتفع بنسبة 37.6 % منذ عام 2014م؛ حيث بلغ عدد مصانع الدواء في مصر، 179 مصنعًا بنهاية عام 2023م، مقارنة مع 130 مصنعًا في عام 2014م.
كما ارتفع عدد خطوط الإنتاج إلى 799 خط انتاج ارتفاعًا من 500 خط انتاج فى عام 2014م، بنسبة نمو 60 %.
وتنتج هذه المنظومة الصناعية 85% من احتياجات مصر من الأدوية الأساسية، بحسب الدكتور محمد عوض تاج الدين، مستشار رئيس الجمهورية للشئون الصحية والوقائية، في تصريحات إعلامية في الخامس عشر من ديسمبر 2023م.وترتفع هذه النسبة من وحدات الدواء المستخدمة في مصر؛ حيث 94 % من هذه المنتجات،إنتاج مصري، بحسب شهادة للدكتورة رشا زيادة، مساعد رئيس هيئة الدواء، خلال جلسة لمجلس الشيوخ في العاشر من يناير الماضي.
واعتمدت إستراتيجية الدولة في تطوير هذا القطاع منذ 2014م، على تفكيك عملية الإنتاج والتسويق، ومعرفة المطلوب في كل خطوة من الخطوات حتى الوصول إلى المُنتَج النهائي.
حجم الاستثمارات في قطاع الدواء
وصل حجم استثمارات قطاع الدواء فى مصر إلى 110 مليار جنيه، بمعدل نمو وصل عشرين% خلال الفترة بين 2014م ونهاية عام 2023م، بينما ارتفعت صادرات الدواء المصري إلي مليار و167 مليون دولار، وكانت السوق الإفريقية على رأس توجهات الدولة في مجال فتح أسواق جديدة أمام المنتجات الدوائية.
توطين صناعة الدواء في مصر.. حقائق وأرقام
بين عامي 2021 و2022، كانت مصر قد قطعت شوطًا طويلاً في تحقيق مستهدفاتها فيما يتعلق بتطوير الصناعات الدوائية في مصر، وبخاصة توطين صناعة الدواء.
ففي مارس 2021م، أطلقت مصر مشروع إستراتيجية توطين صناعة الدواء، والتي تشمل بجانب التصنيع، جانبًا آخر كان مهملاً في العقود الماضية، والمتعلق بإنشاء وتطوير المراكز البحثية الطبية، بجانب إنشاء المزيد من الصناعات الدوائية، وزيادة نسبة المُكَوِّن المحلي فيها، بالإضافة إلى تصنيع الخامات الدوائية نفسها.
وفي أبريل 2021م، افتتحت مصر مدينة الدواء المصرية، والتي تُعتَبر من الأكبر من نوعها في الشرق الأوسط، وبجانب خدمة المحاور الثلاثة سالفة الذِّكر، يهدف مشروع مدينة الدواء المصرية إلى تحويل مصر لمركز إقليمي لتصنيع وتصدير الأدوية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
المدينة بمرحلتَيْها الأولى والثانية، مقامة على مساحة 180 ألف متر مربع، وتتراوح الطاقة الإنتاجية للمدينة ما بين 250 مليون إلى 300 مليون عبوة دواء سنويًّا، وتنتج حوالي أربعين مستحضرًا، فيما يبلغ إجمالي المستحضرات المسجلة وتحت التسجيل 120 مستحضرًا، بالإضافة إلى أنه من المستهدف تصدير من 15 % إلى 20 % من الإنتاج للخارج على عدة مراحل، بعد استيفاء احتياجات السوق المحلية.
وبجانب مدينة الدواء، تملك مصر شركة “فاكسيرا” لإنتاج الأمصال واللقاحات، وتقع على مساحة 61 ألف متر مربع، وتهدف إلى إنتاج 8 لقاحات رئيسية من خلال اتفاقية نقل تكنولوجيا التصنيع المبرمة بين شركة “سيرم” الهندية، أحد أكبر مُصنِّعي اللقاحات على مستوى العالم، و”الشركة القابضة للمستحضرات الحيوية واللقاحات”.
تنتج “فاكسيرا” لقاحات الكلب، ولدغات الثعابين والعقارب والحيَّات، والتيتانوس، بالإضافة إلى مصنع لإنتاج الأنسولين البشري، فضلاً عن مصنع لإنتاج لقاحات كورونا بطاقة إنتاجية 100 مليون جرعة سنويًّا.
ومصر، هي أول دولة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التي تحصل على اعتماد منظمة الصحة العالمية (WHO) التابعة للأمم المتحدة، في مجال اللقاحات، بما يحقق العديد من المكتسبات المتمثلة في تأهيل مصر لتكون أحد الدول المرجعية التي يمكن الاعتماد عليها في العمل الرقابي الدوائي العالمي، وجذب المزيد من الاستثمارات إلى صناعة الدواء في مصر، وفتح المجال أمام المنتجات الدوائية والمستحضرات الطبية المصرية لدخول الأسواق العالمية.
وضمن سياسات الدولة لتعزيز صناعة الأدوية الوطنية، وفي يناير 2022م، قررت الدولة إعفاء مُدخَلَات الإنتاج الدوائية من ضريبة القيمة المضافة، مما عالج الكثير من مشكلات توافر الأدوية في السوق المحلي.
وفي أكتوبر 2022م، تم إطلاق مشروع مدينة الخامات الدوائية، والذي يعتبر عصبًا مُهمًّا في عملية توطين صناعة الأدوية، وتوفيرها في السوق المحلية.
وتم بالفعل افتتاح مشروع مدينة الخامات الدوائية في الربع الأول من عام 2024م، وتضم المدينة التابعة لشركة “صحة” الطبية، التي تأسست لهذا الغَرَض، ثلاثة مصانع، هي “فارما تاو”، وهي شركة متخصصة في مجال صناعة الخامات الدوائية من المصادر الكيميائية المُخلَّقة، وشركة “هيربال” لصناعة الخُلاصات من النباتات الطبية والمصادر الطبيعية الأخرى، وشركة “سيترو إيجيبت” لصناعة المواد الكيماوية، خاصة السيتريك أسيد ومشتقاته.
وحققت هذه الإستراتيجية الكثير من الإنجازات في مجالات مهمة أفادت الدولة في أكثر من اتجاه.
فكانت مصر من أوائل دول العالم التي تُصَنِّع عقار “المولونبيرافير” المُعالِج لفيروس “كورونا المُستَجَد” محليًّا، ولتكون الدولة الأولى بالشرق الأوسط التي تقوم بإصدار رخصة التسجيل الطارئ لهذا العقار محليًّا، من خلال الشركات المصرية
أيضًا في مواجهة هذه الجائحة، تم توطين صناعة كافة مستحضرات بروتوكول علاج فيروس “كورونا المُستَجَد”، عدا مستحضر واحد يصنع عالميًّا في مصنع واحد فقط، في الولايات المتحدة، وهو ما حقق وفرًا قيمته 2 مليار دولار نتيجة تقليل الاستيراد.
القضاء على فيروس سي
وفي إنجاز مصر الأكبر، والذي اعترفت به لها منظمة الصحة العالمية، وهو القضاء على فيروس الالتهاب الكبدي الوبائي من الفئة الثالثة، والمعروف بفيروس “سي” كأحد مشروعات مبادرة “100 مليون صحة” التي تبناها الرئيس عبد الفتاح السيسي، كان لتوطين صناعة الأدوية دور كبير في تحقيق هذا الإنجاز؛ حيث وصلت نسبة توطين دواء فيروس “سي”، “سوفالدي”، إلى نسبة 100%.
كان لتلك الخطوة دور في وصول سعر “الكورس” العلاجي للفرد محليًّا 50دولارًا، مقارنة مع عشرة آلاف دولار لـ”الكورس” عالميًّا.
كما تم توطين واحدة من أهم صناعات الأدوية عالميًّا، وأحد أبرز علامات تطور قطاع البحث العلمي في العلوم الطبية، وهو صناعة المضادات الحيوية الحديثة؛ حيث فقد بلغت نسبة توطينها 79 %، بما حقق وفرًا ناهز 70 مليون دولار سنويًّا نتيجة تقليل الاستيراد.
أيضًا حققت صناعة قطرات العيون أحادية الجرعة نسبة توطين 95.5 %، مما حقق وفرًا قيمته 50 مليون دولار سنويًّا.
حَوْكَمَة قطاع الدواء في مصر
من أجل استكمال أركان الحَوْكَمَة في قطاع الدواء، أسست الدولة المصرية عددًا من الهيئات لضمان إحكام الرقابة وتحقيق المعايير العالمية لسلام الدواء.
في أغسطس 2019م، صدر القانون رقم (151) لسنة 2019م، بإنشاء هيئتَيْن على أكبر قدر من الأهمية في هذا الصدد، وهو قانون إنشاء “هيئة الدواء المصرية”، و”الهيئة المصرية للشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي وإدارة التكنولوجيا الطبية”.ولقد نجحت “هيئة الدواء المصرية”، في الوصول إلى مستوى النضج الثالث “WHO- GBT- Maturity Level 3″، على مقياس “منظمة الصحة العالمية”، لتنظيم اللقاحات المنتجة محليًّا، والمستوردة، على حد سواء.
والتقييم يستند إلى مجموعة من أكثر من 260 مؤشرًا، ويغطي كافة الإجراءات الرقابية بدءًا من التسجيل، ومرورًا بالاختبارات اللازمة ومراقبة السوق، والقدرة على الكشف على أي ممارسات خاطئة.
أما الهيئة المصرية للشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي وإدارة التكنولوجيا الطبية، فقد تم إنشاؤها لتتولى إجراء عمليات الشراء للمستحضرات والمستلزمات الطبية البشرية لجميع الجهات والهيئات الحكومية، من أجل تنظيم هذا القطاع.