في إطار استكشاف وجوه الإعجاز العلمى اللغوي في القرآن الكريم، عقد الجامع الأزهر بالأمس اللقاء الأول من ملتقى التفسير ووجوه الإعجاز بعنوان “أمة النحل في القرآن الكريم بين الإعجاز البلاغي والإعجاز العلمي” وحاضر فيه كل من: أ.د إبراهيم الهدهد رئيس جامعة الأزهر الأسبق، وأ.
د مصطفى إبراهيم، الأستاذ بكلية العلوم جامعة الأزهر، وأدار الحوار، د.
مصطفى شيشي مدير إدارة شئون الأروقة بالجامع الأزهر الشريف.
أوضح د.
إبراهيم الهدهد، أن الله سبحانه وتعالى خلق المعجزات لتناسب كل زمان، ولكن ما يناسب زماننا لمواجهة الإلحاد هو أن نخاطب الملحدين بلغة العلم، وإذا ما تأملنا آية واحدة حدثتنا عن النحل وما توصلت إليه الأبحاث العلمية، نجد أن تلك البحوث تثبت يقينًا أن ما جاء في كتاب الله هو الحق.
فالآية تقول” وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ”، وهذا الوحي، أي الإلهام والإرشاد، موجود في كل المخلوقات، فالوحي هو في الواقع البرامج التي يضعها الله في قلوب مخلوقاته، فتعيش وفق ما أراد الله، لذلك قال تعالى”رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ” إن الخلق نعمة، فالله يُظهر لنا من أين يبدأ المخلوق وإلى أين ينتهي.
فهذه نعمة بحد ذاتها، حيث قال الله تعالى”أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ” فالله لم يخلق شيئًا عبثًا، بل خلق وأعطى للمخلوق برنامج الحياة ومهمته.
عندما يقول: “وأوحى”، نرى أن ما صنعه النحل وما يصنعه منذ أن خلقه الله إلى أن تقوم الساعة هو البرنامج الذي حدده الله له، وفي قوله أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ “، يعلمنا القرآن أن النحل يبني بيوته في ثلاثة اتجاهات: في الجبال، وعلى الأشجار، وفيما يبنيه الإنسان في الحدائق ونحوها، فلا يمكن أن يبني النحل خلاياه في أماكن غير التي حددها القرآن الكريم، كما أن العلم الحديث يثبت أن أعلى درجات عسل النحل تأتي من الجبال، يليه العسل الذي يُجمع من الأشجار، ثم العسل الذي يُجمع من الحدائق.
ثم يوضح رئيس جامعة الأزهر الأسبق، أن الله أوحى إلى النحل بمكان السكن قبل مكان الطعام، مما يبين أولويات الحياة الطبيعية: السكن أولاً، ثم الأمن البدني ثانياً، بعد ذلك حدد الله للنحل مكان الغذاء، حيث تتغذى النحلة على الأزهار، باعتبار ما ستكون عليه الثمار، وهو الإعجاز العلمي، حيث أثبت العلم الحديث أن هذه الأزهار ستصبح ثمارًا.
ولهذا قال تعالى: “ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ”، لأن الزهرة التي ستنعقد ستصبح ثمرة لاحقًا، وفي قوله” فاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ”، فالسلوك هو بلوغ الهدف من أي طريق، فإن الله تعالى يذلل لها كل السبل للحصول على طعامها ، كما تشير الآية إلى أن النحلة، حين تخرج من الخلية بحثًا عن الطعام، تتبع مسارات معينة، مما يعكس نظامًا دقيقًا وإلهامًا من الله.
أوضح الدكتور مصطفى إبراهيم أن مجتمع النحل يُعد مجتمعًا متكاملًا يشبه المجتمع الإنساني، كما يقول الله تعالى: “وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم”، يتميز هذا المجتمع بالنظام والترتيب العجيب، حيث يعتمد النحل في بناء بيوته على ما يُعرف بالكشافات، التي تتولى دراسة المكان الذي سيُبنى فيه المنزل، فتبدأ الكشافات بتحليل جميع العوامل المؤثرة على بناء الخلية، مثل درجة الحرارة واتجاه الرياح، وهنا نجد أن مهندسات النحل يتخصصن في ما يمكن تسميته “الإرشاد الجوي”، حيث يجمعن المعلومات الضرورية لهذا الغرض، ويُظهر القرآن الكريم كيف أن الله سبحانه وتعالى قد أوحى إلى النحل بهذه المعرفة، حيث يقول تعالى: “وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ”.
هذا التسلسل في الآيات يُظهر مراحل الخلق، حيث خلق الله الأرض، ثم الجبال، ثم النباتات، وأخيرًا الحيوانات، ليأتي الإنسان في النهاية يُلاحظ أن النحل يعيش في بيئات متنوعة، سواء في الجبال أو الأشجار أو حتى على أسطح المباني التي بناها الإنسان.
تشير الآيات إلى أن النحل لا يتغذى على الرحيق فقط، بل يتناول أيضًا حبوب اللقاح، وهو ما تم اكتشافه مؤخرًا، حيث يحتاج النحل إلى كليهما لإنتاج غذائه، عندما يمزج النحل حبوب اللقاح مع الرحيق، يحصل على طعام متكامل.
كما تشير الآية إلى “ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ”، مما يعكس أهمية تنوع المصادر الغذائية للنحل.
يجب أن يحتوي العسل الذي يتم إنتاجه على مكونات تعالج الأمراض المختلفة.
وأضاف الأستاذ بكلية العلوم أن الآيات تحمل دلالات عميقة تتجاوز المشاهد الظاهرة، حيث يظهر النحل قدرات مذهلة قد تتفوق أحيانًا على قدرات البشر.
يُظهر الخطاب “اتَّخِذِي” أهمية النحل الإناث في المملكة، التي تضم الذكور وملكة واحدة وعاملات، وتتولى الإناث جميع الوظائف المهمة داخل الخلية، من بناء الخلية إلى الدفاع عنها، بما في ذلك المهندسات والعاملات وأطباء النحل الذين يعالجون الأمراض باستخدام الصمغ، كما تبرز هذه الرسالة أهمية العمل الجماعي والتخصص في مملكة النحل، حيث تتوزع المهام بشكل دقيق.
وهذا يُظهر أن النحل يُعتبر نموذجًا يُحتذى به في تنظيم العمل والتعاون، مما يعكس حكمة الخالق في خلقه..
أوضح الدكتور مصطفى شيشي أن المتأمل في آيات الله تعالى يجد أن أوجه الإعجاز في القرآن الكريم لا تقتصر على مجال معين.
فقد كتب العلماء، قديمًا وحديثًا، كثيرًا عن “إعجاز القرآن” ووجوه هذا الإعجاز، وأُلفت في ذلك العديد من الكتب.
فقد اهتم بعضهم بإخبار القرآن عن الأمور الغيبية، في حين اهتم آخرون بالنظم والعبارة والأسلوب، مما أدى إلى ظهور الحديث عن الإعجاز البلاغي والبياني والعلمي والاقتصادي والكوني والعقدي والتاريخي والإنساني.
فالقرآن الكريم معجز في جميع جوانبه..
وأضاف: إننا نعيش اليوم في زمن يكثر فيه من يشكك الشباب في دينهم عبر الطعن في كتاب الله ومحاولاتهم تشكيك المسلمين في أن القرآن هو كلام الله عز وجل، وهي محاولات بائسة دائمًا ما تفشل، ونقف اليوم عند آية من آيات الله ومعجزة من معجزاته في مخلوق صغير هو النحل، الذي سمى الله عز وجل سورة كاملة باسمه، وهي سورة النحل، ليشير إلى عظمة هذا المخلوق الصغير التي تتجلى فيها قدرته سبحانه وتعالى..
ولا شك أن ما نستنبطه من أسرار ووجوه إعجازية هو جزء من المكنون، فالله عز وجل لديه من الأسرار والحكم ما لا نعلمه، وقد تظهر في أوقات أخرى.
فقد تستوقف قارئ القرآن آية ليجد فيها وجهًا من أوجه الإعجاز، ثم يأتي هو نفسه أو قارئ آخر في زمن آخر ليكتشف في نفس الآية وجهًا آخر لم يظهر من قبل.
وهذا هو نفسه وجه من وجوه الإعجاز ودليل على أن إعجاز القرآن لا يمكن الإحاطة به ولا يقف عند حد، بل إنه متجدد حسب الأحداث والأزمان.
ولذلك قال الشاعر أحمد شوقي:
جاءَ النبِيّونَ بِالآياتِ فَاِنصَرَمَتْ وَجِئتَنا بِحَكيمٍ غَيرِ مُنصَرِمِ
آياتُهُ كُلَّما طالَ المَدى جُدُدٌ يزينهُنَّ جَلالُ العِتقِ وَالقِدَ
صحيفة إلكترونية اخبارية متخصصه فى الشئون العربية واهم الاخبار