عبد الحليم قنديل يكتب: حرب الأقنعة في “النيجر”

images1692037926

ليس صحيحا أن الغرب يدافع عن الديمقراطية فى “النيجر”، ولا عن الرئيس المعزول “محمد بازوم”، الغرب يدافع عن مصالحه ومطامعه الاستراتيجية والاقتصادية والعسكرية، وفى أفريقيا المعاصرة، جرى أكثر من مئة انقلاب ، وكان الغرب يسكت عن كل انقلاب يحقق أو يتكيف مع رغباته ، ويفتح النار وأسطوانات الديمقراطية المشروخة إن لم يكن كذلك ، ويشهر أسلحة العقوبات والتدخلات اللينة والخشنة ، وصولا إلى شن الحروب وتفكيك الدول .

وحتى تاريخ كتابة هذه السطور ، لم تكن قد عقدت القمة الطارئة لدول المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا “ايكواس” ، وقد قيل أنها أعدت خطة تدخل عسكرى لردع انقلاب “النيجر” ، وأنها تحظى بدعم غربى ، وإن كانت التشققات الغربية تتزايد ، على نحو ما بدا فى مواقف إيطاليا وأسبانيا وغيرها ، وهى ترفض التدخل العسكرى تخوفا من تدفقات هجرة غير نظامية هائلة إلى الشواطئ الأوروبية ، تعد “النيجر” واحدة من أهم مصادرها ، بسبب الفقر الرهيب ، والاستنزاف الغربى طويل المدى لموارد “النيجر” التعدينية ، وأهمها “اليورانيوم” و”الذهب” ، فى بلد يصل عدد سكانه إلى نحو 27 مليونا ، وبامتداد جغرافى حبيس ، تصل مساحته إلى مليون و 270 ألف كيلومتر مربع ، ويعيش القسم الأكبر من سكانه جنوبا حول روافد “نهر النيجر” ، بينما تتصارع القبائل والمجموعات العرقية فى بلد غالبه الساحق من المسلمين ، منهم ما يفوق العشرة بالمئة من أصول عربية ، تنشط بينهم مجموعات إرهاب ، تغطى سعيها لاقتناص فتات الحياة الشحيحة من وراء أقنعة دينية “داعشية” و”قاعدية” ، تحركها دوائر مخابرات غربية عند الحاجة ، وعلى طريقة ما يحدث اليوم فى “النيجر” ، وفى حين تتحمس فرنسا أكثر للتدخل العسكرى ، بدعوى إنقاذ حليفها وتابعها “بازوم” ، ودرءا لقرارات “المجلس العسكرى” بإلغاء الاتفاقات الأمنية والعسكرية المعقودة مع “باريس” ، وهو ما يعنى لدى تحققه ، أن فرنسا تخسر وجودها وامتيازاتها المهولة فى مستعمرتها السابقة ، تماما كما جرى قبلها فى “مالى” و”بوركينا فاسو” ، فى حين لا تبدو “واشنطن” متحمسة علنا لأولويات فرنسا ، التى تملك قاعدة عسكرية مهددة فى شرق “النيجر” ، قوامها نحو 1500 جندى ، بينما لأمريكا قاعدتان للطائرات المسيرة والاستطلاع ، وتعتبر وجودها فى “النيجر” حيويا لعمل القوات الأمريكية فى أفريقيا “أفريكوم” ، وربما يفسر ذلك امتناع واشنطن حتى تاريخه ، وتحفظها فى وصف حكومة الجنرال “عبد الرحمن تيانى” بالانقلاب العسكرى ، وتفضيلها سياسة اللعب على الحبال ، فهى تضع قدما فى ملعب التفاهم مع الجنرالات ، وتضع القدم الأخرى فى حفز وتخطيط ودعم خطة تدخل “ايكواس” عسكريا ، وبهدف “خض ورج” مواقف الحكام الجدد فى “نيامى” ، وإن لم يحقق سعى واشنطن للتفاهم الدبلوماسى تقدما ظاهرا إلى اليوم ، فقد عوملت وكيلة الخارجية الأمريكية “فيكتوريا نولاند” بقدر ملحوظ من الازدراء ، وقالت أن مساعيها لم تنجح للقاء الرئيس المحتجز ، وأن قائد الانقلاب امتنع عن لقائها فى زيارتها الاستكشافية الأخيرة ، بينما التصريحات الرسمية للرئيس الأمريكى “جو بايدن” ولوزير خارجيته “أنتونى بلينكن” ، تواصل مراوغاتها المنافقة عن دعم عودة الرئيس المعزول ، والسعى للضغط على قادة الانقلاب بحثا عن حل دبلوماسى ، ويلفت النظر ، أن واشنطن التى تحرص على الزج باسم روسيا فى كل أزمة ، تميل فى أزمة “النيجر” ، إلى تبرئة ذمة روسيا و”فاجنر” ، وتقطع علنا بغياب أى دور روسى فى الانقلاب وما بعده ، برغم أن مظاهر الاحتفاء بروسيا وبأعلامها طاغية غلابة فى احتفالات مئات آلاف “النيجريين” بالقادة الجدد ، وبطلبهم دعم روسيا وجماعة “فاجنر” ، وما من تفسير للمفارقة ، سوى أن واشنطن تتحسب لاحتمالات فشل التدخل العسكرى إن حدث ، وتريد ترك نافذة للتفاهم مع حكم الجنرالات ، ومع حكومة “على الأمين زين” رئيس الوزراء الجديد ، والإبقاء على صلات تمكنها فى وقت لاحق من تدبير الانقلاب على الانقلاب الحالى ، يؤمن وجود قواعدها العسكرية ، واستمرار التلاعب بحجة وأولوية “مكافحة” الإرهاب فى أفريقيا ، بينما هى التى تدعم وجود ونشاط جماعات الإرهاب ، ومن طرف خفى وظاهر ، فقد تحولت دول حزام الساحل الأفريقى ، وبينها “النيجر” ، إلى أكبر ملاعب الإرهاب فى العالم ، وفى هذه الدول 43% من ضحايا الإرهاب فى الدنيا كلها ، وقد أدى تدخل حلف “الناتو” عسكريا فى ليبيا إلى تحطيم دولتها ، وإلى جعلها معبرا ميسرا لجماعات الإرهاب إلى قلب دول الساحل الأفريقى ، وأسوأ آثار التدخل العسكرى إن حدث فى “النيجر” ، تحطيم ما تبقى من تماسك دولتها ، ومنح جماعات الإرهاب فرص ازدهار مضافة ، تبرر للغرب عموما ، ولواشنطن بالذات ، أن تواصل أحاديثها الملتوية عن مكافحة الإرهاب ، ونشر “ديمقراطيات” التفكيك اللانهائى ، وعلى نحو ما جرى فى كل بلد دخلته أمريكا فى العقود الثلاث السابقة ، فالسياسة الأمريكية معروفة بازدواج المعايير والوجوه ، وما تعلنه واشنطن رسميا شئ ، بينما ما تفعله أجهزة مخابراتها فى مقلب آخر ، تنكر علنا وجود دور روسى فى “النيجر” ، بينما تستحضر بأفعالها أشباح روسيا وعفاريت “فاجنر” إلى قلب الصورة ، فقد لا يكون لروسيا بالفعل دور فى التحضير لانقلاب “النيجر” ، لكن الدور الروسى حاضر ويزيد فى دعم الحكام الجدد ، تماما كما فى جهات عديدة من أفريقيا ، تضيق بالعنت والاستعباد الغربى والأمريكى ، وتتصور أن مد الصلات مع روسيا ـ والصين ـ قد يكون داعما لها ومنقذا .

وبالجملة ، لا يريد الغرب ، ولا تريد واشنطن بالذات ، أن تعترف بأن العالم يتغير ، وأن دنيا تعدد الأقطاب زاحفة ، وأن أصداء التحول الجارى تظهر فى أفريقيا ، وتبدل معادلات تقادمت عليها العهود والعقود ، وبرغم أن واشنطن تحاول أحيانا تدارك الموقف ، وعقد قمم “أمريكية ـ أفريقية” فى السنوات الأخيرة ، وتقديم وعود بمعونات واستثمارات وتحالفات أمنية ، إلا أنها تفعل ذلك وغيره بعد فوات الأوان على ما يبدو ، فقد تضخم وتوسع الدور الصينى فى أفريقيا ، وإلى حدود لا تستطيع واشنطن مجاراتها ، ليس لأنها لا تملك الموارد هى وحلفاؤها الأوربيون الأقربون ، بل لأن النظرة الغربية لأفريقيا ، لم تغادر أبدا مواقعها العنصرية الاستعمارية الاستعبادية ، برغم محاولات تجميل فى تغيير اللهجات والاقترابات ، فما من فارق جوهرى فى العمق بين “رسالة الرجل الأبيض” ، التى كانت عنوانا لمئات سنوات الاستعمار “الكولونيالى” القديم ، وبين رسالة “الديمقراطية السعيدة” ، التى يتستر خلفها الاستعباد الغربى اليوم ، فما من فرصة ولا إغراء لحكم “ديمقراطى” المظاهر ، فى أوطان منهوبة الموارد معدومة الاستقلال ، وفى دول بسلطات مركزية هشة ، ولدى شعوب يأكلها الفقر ، وتسودها المذلة الداهسة لكرامة الناس ، إضافة لحروب الإرهاب والنزاعات الأهلية والعرقية ، والنخب الأفريقية بأجيالها الجديدة ، تريد أن تشعر أولا بوجودها وكرامتها الإنسانية ، وتريد مصيرا آخر ، غير الموت غرقا فى رحلة الهروب إلى الشمال ، وكثيرون بينهم ، صاروا يعلقون الجرس فى رقبة القط ، ويدركون أن الغرب الذى يخدعهم بوعود فارغة ، هو اللاعب الأول فى مآسى البؤس الأفريقى ، وهم مستعدون للتجاوب مع أى صوت كاره للغرب ، حتى لو كانت أصوات الانقلابات والجنرالات ، وهو ما يفسر اندفاع الحماس الشعبى الظاهر لانقلاب “النيجر” وما قبله ، ومعه الحماس لاستجلاب الروس وكسب مودة الصينيين ، وهو اتجاه مرشح للتنامى ، حتى لو افترضنا جدلا إمكانية نجاح التدخل العسكرى بإزاحة جنرالات “النيجر” الجدد ، فالشعور الجارف بالعداء للغرب سيظل حيا ، وربما يوالى انقلاباته فى أفريقيا جنوب الصحراء ، فما بالك لو حدث ما هو وارد جدا ، وجرى العدول عن التدخل العسكرى من وراء أقنعة أفريقية ، أو جرت هزيمته مبكرا ، فقد تملك نيجيريا و”ايكواسها” قوة عسكرية كبيرة قياسا إلى “النيجر” ، وجيش نيجيريا هو رابع أقوى جيش فى أفريقيا ، لكنه لا يملك الفرصة لفوز مؤكد ومستقر فى “النيجر” المجاورة المحاذية بحدود طولها نحو 1500 كيلومتر مربع ، عدا أن أصوات القلق والتخوف والرفض والضيق تتصاعد فى “نيجيريا” ذاتها ، ودفعت مؤسسات برلمانية ـ كمجلس الشيوخ ـ إلى المطالبة بكف اليد والحيلولة دون الخيار العسكرى ، فلم تجرؤ “ايكواس” على تدخل مماثل فى أحوال كثيرة سابقة ، وتدخلها اليتيم فى “جامبيا” الصغيرة جدا عام 2017 ، كان الاستثناء الذى يؤكد القاعدة ، ولم تحدث وقتها معارك تذكر ، وقبل الرئيس “يحيى جامع” التنحى عن الحكم بعد خسارته الانتخابات ، فى سيناريو مختلف عن الوضع اليوم فى “النيجر” ، التى تعلن استعدادها للحرب مع الغزاة ، ويصمم قادتها الجدد على إجلاء القواعد الأجنبية ، ولا يملك شعبها شيئا يخسره ، إن هو حارب المعتدين على كرامة بلاده المهانة .

By

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *